عندما يُطرح سؤال:“ما هو أول ملعب في تاريخ كرة القدم؟ فإن الإجابة لا تتعلق فقط باسم ملعب أو قطعة أرض، بل تشمل قصة نشأة اللعبة الحديثة نفسها.
فكرة الملعب لم تكن مجرد مساحة للعب، بل كانت نقطة التحول التي نُظّمت فيها القواعد، وبدأت عندها كرة القدم تأخذ شكلها العالمي المعروف اليوم، قبل أن تصبح الصناعة الرياضية الأكبر في العالم.
الرحلة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر في إنجلترا، وتحديداً إلى ملعب ساعد على تحويل اللعبة من منافسات عشوائية إلى رياضة احترافية لها قوانين ثابتة. ذلك الملعب هو:
ملعب باركرز بيس في مدينة كامبريدج البريطانية، والذي يُعدّه المؤرخون أول ميدان رسمي لولادة كرة القدم الحديثة وفق قواعد مكتوبة.
في هذا المقال نستعرض القصة الكاملة لهذا الملعب، وكيف أصبح نقطة الانطلاق الأولى في تاريخ اللعبة.
ما هو ملعب باركرز بيس؟ ولماذا يُعدّ مميزاً؟
باركرز بيس هو مساحة خضراء مسطحة تبلغ حوالي 25 فدانًا في وسط مدينة كامبريدج. ورغم بساطة شكله، فقد لعب دوراً محورياً في توحيد قواعد اللعبة في القرن التاسع عشر.
كان هذا الميدان مفتوحاً للطلاب والرياضيين على حد سواء، ما جعله ساحة مثالية لتجربة لعبة كرة القدم التي كانت تختلف من منطقة لأخرى آنذاك. في تلك الفترة، كانت كرة القدم تُمارس بعدة طرق، بعضها يشبه الركبي وبعضها أقرب للعبة الحالية. لذلك ظهر احتياج ملح لقواعد موحّدة، وكان باركرز بيس المكان الذي شهد هذا التحول.
سياق تاريخي: كرة القدم قبل إنشاء أول ملعب رسمي
قبل القرن التاسع عشر، لم تكن كرة القدم لعبة لها شكل واحد. النسخ المنتشرة كانت تختلف في:
- حجم وعدد اللاعبين
- السماح باستخدام اليد أو منعه
- شكل المرمى
- طبيعة التنافس
- مدة اللعب
كانت المباريات تُلعب في شوارع القرى أو حقول مفتوحة، وأحياناً بين مئات من الأشخاص دفعة واحدة، وتستمر لساعات طويلة دون قواعد واضحة.
ومع انتشار المدارس والجامعات، بدأت الحاجة تظهر لوضع قوانين تضبط اللعبة، وإيجاد مساحة مناسبة لاستضافة مباريات رسمية. هنا برز دور جامعة كامبريدج، التي كانت مركزاً تعليمياً كبيراً تجمع طلاباً من مختلف مناطق إنجلترا.
لحظة التحول: “قواعد كامبريدج 1848”
عام 1848 اجتمع عدد من طلاب كامبريدج من مختلف المدارس الإنجليزية في محاولة لتوحيد القواعد المتضاربة للعبة.
نتج عن هذا الاجتماع ما سُمّي بـ:
قواعد كامبريدج
وهي أول مجموعة قوانين يمكن اعتبارها الأساس المباشر لكرة القدم الحديثة.
لم تُكتب هذه القواعد في اتحاد رسمي، لكنها كانت بمثابة المرجعية الأولى التي أعيد تطويرها لاحقاً في تأسيس قوانين الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم (FA) عام 1863.
وكان ملعب باركرز بيس المكان الرئيسي لتطبيق هذه القواعد، لذلك أصبح يلقب بـ:
“مهد كرة القدم الحديثة”
لماذا يعتبر باركرز بيس أول ملعب حقيقي لكرة القدم؟
يمكن تلخيص أهم أسباب اعتباره أول ملعب في تاريخ كرة القدم الحديثة في النقاط التالية:
1. أول ساحة طبقت فيها قواعد مكتوبة
كان باركرز بيس أول ميدان تُلعب عليه مباريات منظمة وفق نصوص قانونية موحدة، وليس مجرد عرف محلي أو تقليد شعبي.
2. مكان مفتوح لجميع الرياضيين
الملعب كان مفتوحاً للعامة والطلاب على حد سواء، ما جعله مركزاً للقاء أفضل اللاعبين في ذلك الزمن.
3. مساحة ثابتة ومحددة
على عكس الحقول العشوائية، كان الملعب يمتلك أبعاداً ثابتة نسبياً، وهذا ما ساعد على تنظيم اللعب.
4. تأثيره على الاتحاد الإنجليزي
القواعد التي وُضعت في كامبريدج وتطبقت على هذا الميدان أصبحت المرجعية الأولى لقوانين اللعبة المعترف بها عالمياً حتى اليوم.
5. أول ملعب استخدم مفهوم “التمرير”
القواعد القديمة كانت تعتمد على الجري والالتحام.
أما قواعد كامبريدج فقد قدمت فكرة التمرير الجماعي، وهو أبرز ما يميز كرة القدم الحالية.
شكل الملعب وطريقة اللعب في تلك الفترة
رغم أنه لا يشبه ملاعب اليوم من حيث المظهر، فإن باركرز بيس كان يمتلك العناصر التالية:
- مساحة خضراء واسعة ومستوية
- مرميان بسيطان من دون عارضة علوية
- حدود للملعب تُحدد بالحبال أو العلامات
- كرة جلدية كبيرة وثقيلة
- عدد لاعبين مختلف بحسب الاتفاق، غالباً بين 10 و15 لاعباً لكل فريق
اللعب كان يعتمد على التمريرات الطويلة والتحركات الواسعة، باستثناء استخدام اليد الذي كان ممنوعاً وفق قواعد كامبريدج.
اتفاق كامبريدج: لحظة ميلاد كرة القدم الحديثة
تضمنت قواعد 1848 عدة نقاط أسست اللعبة بشكلها الحالي، أهمها:
- منع حمل الكرة باليد
- تحديد حجم الملعب
- تحديد طريقة تسجيل الهدف
- منع العنف المفرط
- تنظيم مبدأ “الركلة الحرة”
- عدم وجود تسلل بالشكل المعروف اليوم، لكن كان هناك مفهوم أولي له
هذه القوانين كانت متقدمة جداً بالنسبة لوقتها، ولذلك اعتمدها اتحاد الكرة الإنجليزي بعد تأسيسه بـ15 سنة.
تأثير الملعب على تطور اللعبة عالمياً
من باركرز بيس إلى الملاعب الكبرى مثل ويمبلي، كامب نو، وصن دونز في جنوب أفريقيا، مرّت كرة القدم برحلة طويلة، لكن جذورها واحدة.
1. توحيد شكل اللعبة
قبل باركرز بيس، كانت كرة القدم عبارة عن عشرات الألعاب المختلفة.
بعده، أصبحت لعبة واحدة بقواعد واضحة.
2. انتشار اللعبة في المدارس
الجامعة نقلت القواعد إلى المدارس، والمدارس نقلتها إلى المجتمعات المحلية، ومنها إلى العالم.
3. تأثيره على تكوين الاتحاد الإنجليزي
الاتحاد الإنجليزي اعتمد قوانين مشابهة جداً لقواعد كامبريدج.
4. ميلاد “اللعب الجماعي”
التمرير أصبح جزءاً من الهوية الأساسية لكرة القدم، وهذا بدأ في باركرز بيس.
باركرز بيس اليوم: موقع تاريخي لا يزال قائماً
الملعب ما زال موجوداً، ويُستخدم كموقع رياضي عام، وفيه لافتة رسمية تشير إلى أنه:
“المكان الذي وُلدت فيه كرة القدم الحديثة”
يزوره آلاف السياح سنوياً، خصوصاً من عشاق كرة القدم الذين يريدون مشاهدة أول ميدان شهد نشأة اللعبة.
ورغم التطور الهائل للملاعب الحديثة، تظل بساطة باركرز بيس تحمل رمزية قوية:
أرض خضراء مفتوحة أصبحت الأساس لأكبر رياضة على وجه الأرض.
لماذا يبقى أول ملعب في تاريخ كرة القدم جزءاً من هويتها؟
لأن تاريخ كرة القدم ليس فقط عن المباريات والبطولات، بل عن بداية شكلت مستقبل الرياضة.
باركرز بيس يرمز إلى:
التحول من العشوائية إلى التنظيم
وجود رؤية واضحة لقواعد اللعبة
بداية الاحتراف الرياضي
الانطلاقة الأولى لأكبر صناعة رياضية عالمية
الملعب ليس الأشهر، لكنه الأهم تاريخياً.
من ميدان بسيط إلى اللعبة الأكثر انتشاراً
عندما ننظر إلى كرة القدم اليوم بكل نجومها، بطولاتها، قيمتها الاقتصادية، وجماهيرها المليارية، لا يمكن تجاهل أنها بدأت من مساحة عشبية بسيطة في مدينة كامبريدج.
إن أول ملعب لكرة القدم لم يكن مجمعاً ضخماً أو استاداً عالمياً، بل كان مجرد ميدان مفتوح، لكن من خلاله انطلقت القوانين التي نعتمد عليها اليوم.
قصة باركرز بيس ليست مجرد فصل في تاريخ الكرة القدم، بل هي لحظة ميلاد اللعبة الحديثة. ومن هذا الميدان الصغير بدأت الرحلة التي قادت إلى أهم الملاعب في العالم وإلى اللعبة التي تجمع البشرية حول شغف واحد.


رأيك يهمنا عزيزى القارئ