شاهد

أول مباراة تم بثها تلفزيونيًا في التاريخ: عندما دخلت كرة القدم عصر الشاشة الصغيرة

في عصرنا الحديث، من الصعب تخيّل كرة القدم دون شاشات التلفاز، والمذيعين، والتحليلات، والإعادات البطيئة. لكن هذه الصورة المألوفة اليوم بدأت من لحظة واحدة فقط لحظة كانت بسيطة في ظاهرها، لكنها غيّرت إلى الأبد طريقة متابعة الجماهير للعبة.

أول مباراة تم بثها تلفزيونيًا في التاريخ

في هذا المقال سنتناول القصة الكاملة لأول مباراة تم بثها تلفزيونيًا في التاريخ، كيف حدث ذلك، ومن كان وراءها، وما هو تأثيرها على مسار كرة القدم والإعلام الرياضي.

البدايات: عندما كانت كرة القدم بلا جمهور خلف الشاشات

قبل ظهور التلفاز في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت متابعة المباريات مقتصرة على من يملكون تذاكر دخول الملاعب، أو على من يستمعون عبر الراديو.

كان الراديو في ذلك الوقت هو وسيلة الجماهير لمعرفة نتائج المباريات، حيث كان المعلقون ينقلون الأحداث بصوتهم فقط، ما جعل الخيال يلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل صورة المباراة في ذهن المستمع.

لكن في قلب العاصمة البريطانية لندن، كانت ثمة تجربة تكنولوجية جديدة تُحضّر بهدوء، ستغيّر كل شيء إلى الأبد.

1937: العام الذي وُلد فيه البث التلفزيوني الرياضي

في عام 1937، كان التلفزيون لا يزال اختراعًا تجريبيًا في بريطانيا، حيث لم يكن متوفرًا إلا لعدد محدود جدًا من المنازل.

وفي ذلك العام، قررت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أن تُجري تجربة جريئة: نقل مباراة كرة قدم مباشرة عبر التلفزيون.

وقد اختيرت هذه التجربة لتكون من ملعب "هايبري" الشهير، معقل نادي أرسنال في العاصمة لندن، في مواجهة بين فريق أرسنال الاحتياطي وفريق أرسنال الأول في مباراة ودية داخلية.

التفاصيل الكاملة لأول بث كروي في التاريخ

كانت المباراة التي جرت في 16 سبتمبر عام 1937 هي أول بث تلفزيوني لمباراة كرة قدم في التاريخ.

استُخدمت في التجربة كاميرتان فقط:

  • الأولى كانت تُثبت على خط المنتصف لالتقاط المشهد العام.
  • الثانية كانت قريبة من المرمى لتصوير اللقطات الهجومية.

البث كان محدود المدى للغاية، حيث لم تتجاوز التغطية دائرة صغيرة في لندن لا يتعدى عدد المشاهدين فيها بضع مئات، جميعهم تقريبًا من موظفي هيئة الإذاعة البريطانية وعائلاتهم.

لكن رغم محدودية الانتشار، فإن الحدث نفسه كان ثوريًا بكل المقاييس.

كيف كانت جودة الصورة؟

اليوم نشاهد المباريات بجودة 4K وإعادات بطيئة من عشر زوايا مختلفة، لكن في عام 1937 كانت الصورة بالأبيض والأسود، ضبابية، ومليئة بالتشويش.

لم تكن الكاميرات قادرة على تتبع الكرة بسرعة، وكان المخرج التلفزيوني يواجه صعوبة في التنقل بين اللقطات.

ورغم كل تلك التحديات، إلا أن التجربة أبهرت الحاضرين، وأثبتت أن كرة القدم تصلح تمامًا لأن تكون مادة بصرية جذابة للتلفزيون.

ما بعد التجربة: انطلاق عصر جديد في الإعلام الرياضي

بعد نجاح تجربة 1937، بدأت BBC في التفكير جديًا بنقل مباريات أخرى للجمهور.

وفي عام 1938، تم بث أول مباراة رسمية بين ناديين من الدوري الإنجليزي، جمعت بين أرسنال وأرسنال ريزيرفز مرة أخرى كاختبار قبل بدء موسم جديد.

لاحقًا، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، أصبح التلفزيون أكثر انتشارًا، وتحوّلت كرة القدم إلى الحدث الجماهيري الأول على الشاشات في أوروبا والعالم.

أول نهائي كأس يُبث تلفزيونيًا

في الـ30 من أبريل عام 1938، شهد التاريخ أول بث تلفزيوني لنهائي كأس الاتحاد الإنجليزي، الذي جمع بين بريستون نورث إند وهدرسفيلد تاون على ملعب ويمبلي الشهير.

كانت تلك المباراة لحظة فارقة، إذ تابعها أكثر من 10 آلاف شخص عبر أجهزة التلفاز القليلة المنتشرة في بريطانيا، وهو رقم كبير جدًا بالنسبة لذلك الزمن.

ومنذ ذلك اليوم، أصبح نهائي كأس الاتحاد حدثًا سنويًا يُبث مباشرة، ما جعل الكرة الإنجليزية في طليعة التجارب الإعلامية الرياضية.

من إنجلترا إلى العالم: كيف انتشر البث الكروي؟

بعد نجاح التجربة البريطانية، بدأت الدول الأوروبية الأخرى بمحاكاة الفكرة.

في خمسينيات القرن الماضي، انطلقت فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا في بث مباريات محلية، ثم جاءت اللحظة الحاسمة عام 1954 عندما قرر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) السماح ببث مباريات كأس العالم تلفزيونيًا لأول مرة في التاريخ.

كان ذلك خلال مونديال سويسرا 1954، حيث شاهد الملايين من الأوروبيين مباريات البطولة على شاشات التلفزيون الأبيض والأسود، مما جعل كرة القدم تتحول إلى ظاهرة عالمية.

البث الملون والتطور التكنولوجي

البث الملون والتطور التكنولوجي

في الستينيات والسبعينيات، دخل البث الملون إلى عالم الرياضة، فصار المشاهد يعيش أجواء المباراة كما لو كان في المدرجات.

وفي الثمانينيات، ظهرت الكاميرات المحمولة والإعادات البطيئة، ثم في التسعينيات جاءت الثورة الرقمية التي نقلت كرة القدم إلى مستوى آخر من الإبهار.

اليوم، يتم تصوير كل مباراة بأكثر من 30 كاميرا، وتُبث بأعلى جودة ممكنة عبر القنوات الفضائية والإنترنت، وكل ذلك يعود إلى تلك التجربة الصغيرة في لندن عام 1937.

تأثير البث التلفزيوني على كرة القدم

لا يمكن المبالغة في تقدير أثر التلفزيون على تطور كرة القدم.

فقد ساهم البث في:

1. انتشار اللعبة عالميًا وجعلها في متناول الجميع.

2. زيادة العوائد المالية للأندية والاتحادات.

3. تحول اللاعبين إلى نجوم عالميين بفضل ظهورهم المستمر على الشاشات.

4. ولادة إعلام رياضي متخصص يغطي أدق تفاصيل المباريات.

5. تطور التحليل الفني والتكتيكي بفضل تكرار اللقطات والإعادات البصرية.

بدون البث التلفزيوني، لم تكن كرة القدم لتصبح الصناعة المليارية التي نعرفها اليوم.

مفارقة تاريخية: من بث محدود إلى جمهور بالمليارات

من بضع مئات من المشاهدين في لندن عام 1937، إلى أكثر من 3 مليارات مشاهد تابعوا نهائي كأس العالم 2022 ، هكذا تطورت رحلة كرة القدم على الشاشة الصغيرة.

هذا التحول لم يكن فقط تقنيًا، بل ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا أيضًا، حيث أصبحت المباراة حدثًا عالميًا يوحد الشعوب في لحظة واحدة، أمام شاشات متعددة، بألوان متعددة، ولغات متعددة.

الشرارة التي أضاءت الملاعب عبر الزمن

قد تبدو مباراة ودية بين فريقي أرسنال في عام 1937 شيئًا بسيطًا، لكنّها في الحقيقة كانت الشرارة الأولى لعصرٍ جديد جعل كرة القدم أكثر قربًا من الجماهير، وأكثر شهرة من أي وقت مضى.

لقد فتحت تلك التجربة الباب لعالم كامل من التطور، من البث الأبيض والأسود إلى تقنية الذكاء الاصطناعي وتحليل الأداء.

وهكذا، نستطيع القول إن 16 سبتمبر 1937 لم يكن مجرد يوم في تاريخ أرسنال، بل كان يوم ميلاد كرة القدم الحديثة أمام عدسات الكاميرا.

تعليقات