في عالم كرة القدم الحديث، أصبحت المباريات الليلية جزءًا أساسيًا من الترفيه الرياضي، حيث تتلألأ الملاعب تحت أشعة الأضواء الكاشفة الساطعة، تجذب ملايين المشاهدين عبر الشاشات والمقاعد.
لكن هذه الظاهرة لم تكن موجودة دائمًا. في الماضي، كانت المباريات مقيدة بضوء النهار، وكانت الظلام ينهي اللعب قبل أن ينتهي الإثارة. فمتى تم استخدام الأضواء الكاشفة لأول مرة في تاريخ كرة القدم؟ هذا السؤال يأخذنا في رحلة عبر الزمن، إلى عصر الابتكارات الكهربائية الناشئة، حيث كانت كرة القدم تتخبط بين التقاليد والحداثة. في هذا المقال، سنستعرض التاريخ الكامل لهذه الابتكار الذي غير وجه الرياضة إلى الأبد، مع التركيز على اللحظات الرئيسية، التحديات، والتأثيرات الثقافية والاقتصادية.
جذور الابتكار: من الشموع إلى الكهرباء
تعود جذور استخدام الإضاءة الاصطناعية في الرياضة إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت الكهرباء تُعتبر تقنية ثورية. قبل ذلك، كانت المباريات تعتمد على الشموع أو المصابيح الغازية، لكنها كانت ضعيفة وغير كافية لإضاءة ملعب كامل. كرة القدم، التي نشأت في إنجلترا كلعبة شعبية بين العمال والنبلاء، كانت تواجه تحديًا كبيرًا: الشتاء البريطاني القصير، الذي يجعل النهار ينتهي قبل نهاية المباريات، مما يحد من الإيرادات والمتعة.
الدافع الأول لاستخدام الأضواء لم يكن رياضيًا بحتًا، بل تجاريًا. الشركات الكهربائية، مثل شركة "سيمنز" الألمانية و"إديسون" الأمريكية، رأت في الرياضة فرصة للترويج لمنتجاتها. كانت فكرة إضاءة الملاعب تعني عرضًا حيًا لقوة الكهرباء، مما يجذب الجمهور الذي يتردد في اعتماد هذه التقنية الجديدة في منازلهم. وهكذا، بدأت التجارب الأولى في أوروبا، حيث كانت بريطانيا مركزًا لكرة القدم.
اللحظة التاريخية: 14 أكتوبر 1878 في برامال لين
يُعتبر اليوم 14 أكتوبر 1878 نقطة تحول في تاريخ كرة القدم، إذ شهد ملعب برامال لين في شيفيلد، إنجلترا، أول مباراة كرة قدم تُلعب تحت أضواء كاشفة كهربائية. كان الملعب، الذي يُعد اليوم مقر نادي شيفيلد يونايتد، موقعًا مثاليًا لهذا الابتكار، حيث كان مركزًا للرياضة في المدينة الصناعية.المباراة كانت عرضًا تجريبيًا بين فريقين محليين: "الزرقاء" (Blues) و"الحمراء" (Reds)، وهما مجموعتان من لاعبي شيفيلد المحترفين. لم تكن مباراة رسمية، بل عرضًا ترويجيًا مدعومًا من قبل شركتين كهربائيتين: "سيمنز وكالكر" و"بوث وبراون".
تم تركيب أربع مصابيح كهربائية قوية، مرتفعة على أبراج خشبية تبلغ ارتفاعها 30 قدمًا (حوالي 9 أمتار)، واحدة في كل زاوية من الملعب. كانت الطاقة تولد بواسطة محركين محمولين، واحد خلف كل مرمى، مدعومين ببطاريات وبخار.وصف الصحف المحلية، مثل "شيفيلد آند روثرام إندبيندنت"، الفعالية بأنها "عجيبة ومدهشة". حضر حوالي 6,000 متفرج، وكان الإضاءة الساطعة تُقارن بالشمس، لكنها أحدثت مشكلات: أدت إلى إرباك اللاعبين، حيث أبلغوا عن دوار وأخطاء غريبة بسبب الوهج القوي. انتهت المباراة بفوز "الزرقاء" 2-1، لكن النجاح الحقيقي كان في الإعلان عن إمكانية اللعب الليلي. كانت هذه المباراة أول استخدام ناجح للأضواء الكاشفة في كرة القدم، رغم أنها كانت مؤقتة وليست دائمة.لم يقتصر الابتكار على إنجلترا؛ في الشهر نفسه، أقيمت تجربة مشابهة في اسكتلندا بين ثيرد لانارك وفالي أوف ليفن، لكن الإضاءة كانت أضعف، تعتمد على شعاع واحد فقط.
التحديات الأولى: رفض الاتحادات والتجارب المحدودة
رغم هذا النجاح، لم يتم تبني الأضواء الكاشفة فورًا. كانت الاتحادات الرياضية، مثل الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم (FA)، محافظة للغاية. اعتبرت اللعب الليلي تهديدًا للتقاليد، وخشيت أنه سيبعد العمال عن عائلاتهم أو يقلل من حضور المباريات النهارية. كما كانت التكاليف عالية، والتقنية غير موثوقة؛ غالبًا ما تفشل الأضواء أو تسبب حرائق.في العشرينيات من القرن العشرين، شهدت التجارب عودة. في عام 1920، أقيمت مباراة بين أرسنال وشيفيلد يونايتد في ملعب هايبري تحت أضواء بحث جوي مضادة للطائرات، بإذن من وزير الحرب ونستون تشرشل. حضر 12,000 متفرج، واستخدمت كرات مدهونة بالجير الأبيض لتكون مرئية.
لكن هذه كانت استثناءً، غالبًا لأغراض خيرية أو ترويجية.أما في الثلاثينيات، فقد حاول هربرت تشابمان، مدير أرسنال الشهير، تركيب أضواء دائمة في الغربي ستاند بملعب هايبري، مستوحى من تجارب في بلجيكا ونمسا. لكن الاتحاد الإنجليزي رفض السماح باستخدامها في المباريات الرسمية، معتبرًا إياها "غير تقليدية". في الوقت نفسه، كانت السباقات الجري (مثل سباقات الكلاب الرمادية) تستخدم الإضاءة بنجاح، مما زاد الضغط على الاتحادات.
الانتشار العالمي: من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا
لم تكن بريطانيا الوحيدة في هذه السباق. في الولايات المتحدة، لعبت مباريات كرة قدم أمريكية تحت الأضواء منذ 1892، وانتقلت الفكرة إلى كرة القدم التقليدية في أمريكا الجنوبية. في البرازيل، أصبحت الملاعب الليلية شائعة في الثلاثينيات، وفي عام 1950، استخدمت الإضاءة في كأس العالم، رغم رفض FIFA استخدامها في جميع المباريات لضمان العدالة مع الفرق الأوروبية.أما في أوروبا، فقد قادت هولندا الانتشار في 1934، عندما ركبت شركة فيليبس أبراج إضاءة في أولمبيك ستاديوم بأمستردام، بقوة 200,000 شمعة. كانت هذه الأبراج، المصنوعة من الفولاذ، نموذجًا للتصميم الحديث.
الثورة الحقيقية: الخمسينيات والمباريات الرسمية
بعد الحرب العالمية الثانية، تغير كل شيء. مع ازدهار الاقتصاد وتطور التقنية، أصبحت الأضواء الكاشفة الدائمة ممكنة. في سبتمبر 1949، أقامت ساوث ليفربول أول مباراة تحت أضواء دائمة في هولي بارك، ضد فريق نيجيري. ثم في 1950، لعبت أرسنال أول مباراة رسمية كبيرة تحت الأضواء في هايبري ضد هابويل تل أبيب، فازت 6-1.اللحظة الحاسمة جاءت في 1956، عندما سُمح بأول مباراة دوري إنجليزي تحت الأضواء بين بورتسموث ونيوكاسل يونايتد في فراتون بارك. جذب النادي وولفرهامبتون واندررز الجماهير بمباريات ودية ليلية ضد أندية أوروبية كبيرة، مما أدى إلى رفع الحظر الرسمي. بحلول نهاية الخمسينيات، أصبحت الإضاءة شائعة في معظم الملاعب الكبرى، مثل إيفرتون في 1957 وبولتون في 1958.
التأثير الثقافي والاقتصادي: تحول كرة القدم إلى صناعة عالمية
التطور التكنولوجي: من الأبراج إلى الـLED
مع الزمن، تطورت التقنية. الأبراج التقليدية، التي بلغت ارتفاعها 100 قدم في الستينيات، استُبدلت بإضاءة مدمجة في المدرجات لتجنب الظلال. في 2014، استخدم نادي تاونتون فيل سبورتس كلوب أول إضاءة LED في مباراة، مما يوفر الطاقة بنسبة 70% مقارنة بالهالوجين. اليوم، تُستخدم تقنيات ذكية تتناسب مع الكاميرات التلفزيونية، وتقلل الانبعاثات الكربونية، مما يجعل كرة القدم أكثر استدامة.
رأيك يهمنا عزيزى القارئ