شاهد

دينيس بيركامب: الرسام الهولندي الذي رسم لوحاته على أرض الخضراء

في عالم كرة القدم الذي يتسارع فيه اللاعبون مثل الرياح، كان هناك رجل يتحرك كالنسيم الهادئ، يرسم خطوطاً فنية بقدمه اليمنى الساحرة، ويترك خلفه لوحات تُدرس في أكاديميات الفنون الرياضية. 

دينيس بيركامب، المهاجم الهولندي الذي ولد في 10 مايو 1969 في أحياء أمستردام الشعبية، لم يكن مجرد لاعب؛ كان فناناً يمزج بين الدقة الهندسية والإبداع الشعري. اشتهر بلقب "الإنسان غير المحب للطيران" بسبب خوفه من السماء بعد حادث جوي مرعب في كأس العالم 1994، لكنه طار عالياً في سماء الملاعب، محولاً كل لمسة كرة إلى قصيدة. في هذا المقال، نغوص في رحلة هذا الأيقونة، من أزقة أمستردام إلى أنوار لندن، مروراً بإحصائياته الخالدة وجوائزه التي تاجت مسيرته بتاج الإبداع.

البدايات: طفل أمستردام الذي أحب الكرة أكثر من السماء

نشأ بيركامب في عائلة متواضعة، حيث كان والده عاملاً في مصنع، وكانت كرة القدم ملاذه اليومي في شوارع أمستردام. انضم إلى أكاديمية أياكس في سن الحادية عشرة، حيث تعلم فلسفة "الكرة الشاملة" التي يُنسب ابتكارها إلى يوهان كرويف. لم يكن بيركامب الفتى السريع أو القوي جسدياً، بل كان الذكي الذي يقرأ اللعبة ككتاب مفتوح. 

بدأ مسيرته الاحترافية في 1986 مع أياكس، وسرعان ما أصبح نجماً صاعداً. كان يلعب في كل مراكز الوسط الهجومي، لكنه سرعان ما استقر كمهاجم ثانٍ، يصنع الفرص بتمريراته الليزرية قبل أن ينهيها بهدف فني.هذه البدايات لم تكن سهلة؛ المنافسة في أياكس شرسة، لكن بيركامب أثبت نفسه بسرعة مذهلة. في موسم 1990-1991، سجل 26 هدفاً في الدوري الهولندي، مما جعله هداف الليغة لثلاثة مواسم متتالية. كانت هذه الفترة تشكل شخصيته: هدوء خارج الملعب، وبركان إبداع داخل الخطوط الخضراء.

الأندية: من أياكس إلى آرسنال، رحلة الإبداع عبر الحدود

مسيرة بيركامب الناديية كانت مليئة بالمنعطفات، من النجاحات اللامعة إلى التحديات التي صقلت موهبته. بدأ مع أياكس أمستردام (1986-1993)، نادي الطفولة الذي شكل هويته. لعب 239 مباراة وسجل 122 هدفاً، مساهماً في بناء فريق أسطوري. تحت قيادة كرويف، فاز ببطولة الدوري الهولندي عام 1990، وكأس الاتحاد الأوروبي عام 1992 (حيث سجل هدفاً حاسماً في النهائي ضد تورينو)، وكأس هولندا عام 1993. كانت أياكس مدرسة له، حيث تعلم كيف يجمع بين الذكاء الجماعي واللمسات الفردية الساحرة.

في صيف 1993، انتقل إلى إنتر ميلان مقابل 8 ملايين جنيه إسترليني، بحثاً عن تحدٍ أكبر في الدوري الإيطالي الدفاعي. الفترة الإيطالية (1993-1995) كانت الأقل نجاحاً؛ لعب 79 مباراة وسجل 20 هدفاً فقط، مصاباً بالإرهاق والضغط الإعلامي. الإيطاليون لقبوه "الحمار الأسبوعي" بسبب أدائه المتقلب، لكنه فاز بكأس الاتحاد الأوروبي عام 1994، مما أعطاه لمحة عن النجاح الأوروبي. كانت هذه التجربة قاسية، لكنها علمته الصبر والتكيف.

ثم جاء التحول الحقيقي مع آرسنال (1995-2006)، حيث أمضى 11 عاماً خالدة. وقّع مع النادي الإنجليزي مقابل 7.5 ملايين جنيه، وتحت قيادة بروس ريوك ثم آرسين فينغر، أصبح "الرسام". لعب 423 مباراة وسجل 120 هدفاً، مساهماً في 211 هدف إجمالياً (أهداف وصناعات). كان متوسط مشاركته 38.5 مباراة موسمياً، مع 10.9 أهداف في المتوسط. أبرز إنجازاته: الثنائية (دوري وكأس) عامي 1997 و1998، ثنائية أخرى عام 2002، كأس الاتحاد الإنجليزي 2003، والدوري 2004 (موسم "اللا هزيمة"). وصل مع آرسنال إلى نهائي دوري أبطال أوروبا 2006، حيث اعتزل كبديل غير مشارك. في آرسنال، أصبح رمزاً؛ نحتتمثال له خارج ملعب الإمارات، إلى جانب توني آدامز وتييري هنري فقط.إجمالي مسيرته الناديية: 596 مباراة و288 هدفاً، معظمها في الدوريات الكبرى.

المنتخب: الـ37 هدفاً التي رسمت تاريخ هولندا

مع المنتخب الهولندي، كان بيركامب عمود الفقري لـ"البرتقاليين" من 1990 إلى 2000، حيث لعب 79 مباراة وسجل 37 هدفاً، محطماً رقماً قياسياً لـفاس ويلكس قبل أن يتجاوزه باتريك كلويبرت لاحقاً. كان هدافاً ثانياً في تاريخ المنتخب، وصانعاً للفرص الأول.شارك في أبرز البطولات: يورو 1992، حيث سجل ثلاثة أهداف وساهم في الوصول إلى نصف النهائي. في كأس العالم 1994، سجل هدفاً ضد البرازيل في دور الـ16، لكن خوفه من الطيران أثر على عودته. 

عاد أقوى في يورو 1996، مسجلاً هدفاً أيقونياً ضد إنجلترا من تمريرة رائعة من كومان. أما كأس العالم 1998، فكانت قمة مسيرته الدولية؛ سجل ثلاثة أهداف، بما في ذلك "هدف القرن" ضد الأرجنتين في ربع النهائي (لمسة سحرية فوق المدافعين)، مما أوصل هولندا إلى المركز الرابع. في يورو 2000، صنع ثلاثة أهداف لكنه خرج بركلات الترجيح أمام إيطاليا في نصف النهائي، معلناً اعتزاله الدولي بعدها للتركيز على النادي.كانت مسيرته الدولية مزيجاً من الإبداع والإحباط، لكنها تركت بصمة لا تُمحى على كرة القدم الهولندية.

الأرقام القياسية: إحصائيات تروي قصة عبقري

لم يكن بيركامب هدافاً تقليدياً، بل صانعاً للجمال. إليك جدولاً يلخص إحصائياته الرئيسية:

  • هداف الدوري الهولندي 3 مواسم متتالية (1990-1993) بواقع 122 هدف خلال 239 مبارة.
  • هداف إنتر ميلان الإيطالي بواقع 20 هدف في 79 مبارة خلال الفترة من (1993-1995) .
  • هدف كل 122 دقيقة في البريميرليج مع أرسنال في الفترة من (1995-2000) .
  • ثاني هدافي المنتخب الهولندي بواقع 37 خلال 79 مبارة في الفترة من (1990-2000) .
  • جوائز هداف بطولات متنوعة 299 هدف و 176 صناعة خلال 820 مبارة .

من أبرز أرقامه: في موسم 1998-1999، صنع 13 تمريرة حاسمة في البريميرليغ، مشاركاً في الصدارة. هدفه ضد نيوكاسل عام 2002، حيث سيطر على كرة معلقة في الهواء بلمسة ساق، ثم مررها لـبيرتي، فاز بجائزة "هدف الموسم". وهدفه ضد الأرجنتين في 1998، الذي اختير أفضل هدف في تاريخ كأس العالم. هذه الأرقام ليست مجرد أرقام؛ هي قصص إبداع.

الجوائز الفردية: تكريم للفنان الذي غير قواعد اللعبة

حصد بيركامب جوائز تعكس تأثيره العالمي. فاز بلقب أفضل لاعب هولندي عامي 1991 و1992، وكان هداف الدوري الهولندي لثلاثة مواسم. في إنجلترا، منحته نقابة اللاعبين المهنيين (PFA) جائزة أفضل لاعب عام 1998، كأول هولندي يفوز بها. احتل المركز الثاني في الكرة الذهبية 1993 (خلف بيرسي)، والثالث في FIFA World Player عامي 1993 و1997. في 2007، أدخل إلى قاعة مشاهير كرة القدم الإنجليزية كأول هولندي، وفي 2021 إلى قاعة مشاهير البريميرليغ. اختاره بيليه في قائمة FIFA 100 لأفضل 125 لاعباً حياً، وفي 2011، عمل كمدرب مساعد في أياكس حتى 2017، مكرماً جذوره.

الألقاب مع الأندية: 11 كأساً من الذهب 

فاز بيركامب بـ11 لقباً رئيسياً مع أنديته، معظمه مع آرسنال:مع أياكس: دوري هولندا (1990)، كأس الاتحاد الأوروبي (1992)، كأس هولندا (1993)، كأس الاتحاد الأوروبي (1992 – تصحيح: UEFA Cup).

مع إنتر: كأس الاتحاد الأوروبي (1994).

مع آرسنال: دوري البريميرليغ (1997، 1998، 2002، 2004 – بما في ذلك الموسم اللا هزيمة)، كأس الاتحاد الإنجليزي (1997، 1998، 2002، 2003)، درع الرابطة (1998، 1999، 2002، 2004).

هذه الألقاب ليست مجرد ميداليات؛ هي شهادات على كيف حوّل بيركامب فرقاً عادية إلى أساطير.إرث يتجاوز الملاعب اعتزل بيركامب في 2006، تاركاً وراءه تراثاً يُدرس في كل أكاديمية. لم يكن يسعى للأضواء، بل للكمال في كل لمسة. اليوم، يعيش في لندن مع عائلته، يشاهد حفيده يلعب، ويذكرنا بأن كرة القدم ليست سباقاً، بل فن. في زمن السرعة، يبقى بيركامب تذكيراً بأن الجمال يكمن في الدقة. هل كان أعظم لاعب في تاريخ آرسنال؟ ربما. لكنه بالتأكيد، أحد أجمل اللاعبين الذين رأتهم العيون.

تعليقات